
( قول للبِنَيّة الخائفة..)
حديث المدينة الأربعاء 15 مارس 2023
في أخبار الصراعات الدموية في دارفور دائماً ترد هذه العبارة( هذا وقد أحرق في الحادثة 150 بيتاً) لا يختلف كل مرة سوى الرقم الذي يزيد وينقص حسب قوة الاشتباك والغبن المتبادل.. ولا أريد هنا أن أخوض في أسباب الاحتكاكات ولا جدوى الصراع.. كل الذي أرجوه الآن هنا أن نحَدّق معاً في حكاية "150" بيتاً التي أحرقت في الصراع.
لماذا تحرق البيوت في دارفور؟ لأنها ليست بيوتاً من الأصل، هي "قطاطي" جمع "قطية" مشيدة من القش ومواد قابلة للاشتعال، وهي لا تصلح إطلاقاً لسكن الإنسان إلا إذا كان مثل "قطية" منزل السيد الصادق المهدي الشهيرة التي تمثل لوحة تراثية رائعة يلتقي فيها ضيوفه ليستمتعوا – لا ليعيشوا- بجمال التراث..
المشكلة في دارفور ليست في إحراق بيوت القطاطي.. بل لماذا من الأصل يعيش البعض في "قطاطي" .. إقليم أغنى من دول كثيرة بموارده الطبيعية والزراعية وثرواته المعدنية.. هنا العلة.. في وجود بيوت القطاطي لا إحراقها..
أعلم إن البعض سيقول أن الدولة الفقيرة غير قادرة على توفير مطلوبات الحياة الأساسية من طعام وماء شرب نظيف و رعاية صحية ، فكيف تفكر في البيت الكريم الذي يأوي الأسرة في وضع يسمح لها بحرية خصوصياتها، وسترة حالها.. و ترفيع الأمن المجتمعي الذي يجعل الإنسان آمناً في سربه..
لكن وبكل أسف.. هذا السؤال يجب أن يجرم بقانون مكافحة الإحباط والدعوة للخمول الذهني و كسر الهمة الوطنية.. فقد قلنا كثيراً أن المال يأتي بعد الفكرة "الرأس" ولهذا أطلقوا عليه "رأس المال"، والفكرة يجب أن تبدأ بخطة استراتيجية ترفيع مستوى البيئة الحضرية التي تحيط بالإنسان في بيته و عمله و ترفيهه.
هذه الخطة تنهض على مفاهيم تؤمن بقاعدة (العائد من الإنسان يتناسب طردياً مع ما ينفق عليه) وكلما استثمرنا في الإنسان زاد العائد منه..
وبهذا المنطق فإن أي مال ينفق في ترقية الإنسان والبيئة التي تكتنفه سيعود سريعاً وبأكثر مما أنفق فيه..
دارفور إستثناء من كل ولايات السودان تحولت الآن الى إقليم، ويجب أن يكون لحكومة الإقليم خطة استراتيجية تحدد متى تتخلص قرى دارفور ومدنه من بيوت القطاطي.. من نار "تحرق بيوتات الفريق"..
لنفترض.. أن المطلوب تشييد قرى حضرية حديثة بكل الخدمات والمرافق لتتسع لحوالى مليون أسرة كمرحلة أولى.. خلال 5 سنوات.. وتكلفة ذلك تتجاوز 10 مليار دولار.. ما يعادل 2 مليار كل عام..
الحساب هنا لا يقوم على مبدأ التكلفة، بل العائد من التكلفة.. فعملية تشييد القرى نفسها لها عائد كبير في فتح فرص العمل لعشرات الآلاف بصورة مباشرة وغير مباشرة.. و أكبر من ذلك عائد لا يقدر بثمن في السلام والاستقرار، فالحروبات والدمار هي حصيلة الإحباط واسترخاص حياة مجدبة.. لكن المواطن الذي يعيش في بيت كريم ويرى أطفاله في الصباح يذهبوا الى المدرسة ويعودوا آخر النهار ثم يتحلقون حول "صينية الغداء" لن ينظر للحياة إلا في ضوء الأمل الذي يطل من عيون أطفاله..
هذا المشروع الضخم ليس من باب "إعادة النازحين " إلى قراهم كما يكرر الخطاب السياسي الممجوج.. فمن قال لكم أن النازحين يريدون العودة الى البيئة السكنية ذاتها بعد كل هذه السنوات الطوال من المهجر القسري في النزوح بالداخل واللجوء بالخارج..
مثل هذا المشروع يخاطب مستقبلاً يستحقه أهل دارفور..
حتى نغني نحن جميعاً..
(قول للبنية الخائفة من نار الحروف..
تحرق بيوتات الفريق
قول ليها ما تتخوفي..
دي النسمة بتجيب الأمل..
والأمل يصبح رفيق..)