
فظائع الانتهاكات !!
(1/10)
تحقيق : أسماء ميكائيل أسطنبول
منذ انقلاب 25 أكتوبر، وحتى لحظة كتابة هذا التحقيق نجد أن هناك جهات من المنظومة الأمنية لازالت تمارس انتهاكات ضد الثوار الذين خرجوا من أجل التغيير، سواءً أكان ذلك بتعليمات أو لا، ونتج عن تلك الانتهاكات إصابة العديد من الشباب بعاهات جسدية والبعض الآخر مازال يعاني، وآخرين فقدوا حياتهم، ورغم ذلك لم يثنهم العنف أو يضعف من مسيرة نضالهم، بل زادهم قوة وعزيمة، لأن هنالك عهد قطعوه بينهم ورفاقهم الذين فقدوا حياتهم من أجل التغيير والحياة الكريمة.
الإصابات الجسدية
الانتهاكات كثيرة جداً ووصلت إلى أكثر من 6 آلاف و(423) حالة إصابة جسدية، بحسب تقارير منظمات مجتمع مدني متمثلة في إصابات مختلفة، وهنالك -أيضاً- حالات نفسية.
صحيفة (التيار) سجَّلت زيارة لبعض الثوار الذين تعرَّضوا لانتهاكات، وكل قصة ثائر كانت مفجعة ومؤلمة عن الآخر. (نستميح القراء عذراً لسردنا لهذه الانتهاكات التي ينفطر منها القلب)، ولكن لابد من سردها حتى يعلم من يستنكر، مدى التضحيات التي قدَّمها هؤلاء الشباب من أجل الوطن ومازالت التضحيات مستمرة ثمناً للدولة المدنية، وكذلك توثيقاً لما قدَّموه من غالٍ ونفيس حتى يصبح تاريخ يدرَّس للأجيال القادمة من بسالة وجسارة لشباب حقيقيين لا يهابون الموت من أجل أن يعيش من تبقَّى منا على قيد الحياة، حياة كريمة تسود فيها العدالة والمساواة.
مشاكل أساسية
من ضمن المشاكل التي واجهتني في هذا التحقيق كيفية الوصول إلى هؤلاء الشباب حتى نستطيع توثيق ما حدث لهم من انتهاك، نحن نشاهدهم ونلتقي بهم في بعض المواكب، ولكن كيف الوصول إليهم وكيفية إقناعهم، حتى يتحدث كل واحد منهم عن الانتهاك الذي تعرَّض لها، وكانت مبرراتهم للممانعة في الحديث عدم الثقة نتيجة للاختراقات الأمنية التي تقوم بها الجهات النظامية داخل الثوار، كما قال البعض منهم للصحيفة، لذلك لم يكن الوصول إليهم متاحاً إلا عبر وسائط متعددة من أشخاص ذو ثقة بهم ورغم ذلك هنالك من رفض الحديث للصحيفة .
مازال مستهدفاً
كل هذه الانتهاكات التي سنسردها حقيقية حيث سجلت الصحيفة زيارة للبعض منهم، وكانت إصابات متنوِّعة، كما التقينا ببعض أسرهم، ولكن لا نستطيع ذكر أسمائهم الحقيقية أو حتى ألقابهم، وكذلك مكان سكنهم، لأنه مازال البعض منهم مستهدفاً، عليه سنكتفي بأسماء أو حروف.
الزيارة الأولى
كانت هنالك زيارة لاثنين من الإخوة صغار في العمر " قُصر"، حيث تعرَّضا لانتهاك فى يوم واحد، أحدهما ممتحن للصف الثامن والآخر في الصف الثالث الثانوي، عندما التقيت بوالدتهما وقصت لي ما حدث لأبنائها كانت غاضبة جداً، ابتدرت حديثها وهي منفعلة وقالت: أبنائي تعرَّضا للضرب المبرح دون رحمة أو شفقة من قبل (...) ومضى أحدهما ليلة كاملة في الحراسة، أخذته وذهبت به إلى إدارة حماية الطفل ومنظمة حقوق الإنسان وفي النهاية لم أحصل على نتيجة، والثاني تم القبض عليه أثناء الموكب وذهبوا به نحو قسم بيت المال (كموندانية) أجلسوه ما يقارب ساعة من الزمن، وقال لي: "يا أمي ضربوني ضرب شديد وقالوا لي أخيراً قبضناك يا فلان (بلقبه)" وسألني مرة أخرى أنت فلان وأجبته نعم، فقال لي: أنت كذا وأبوك كذا، ومن كثرت الضرب سألني أحدهما ألم تشعر بهذا الضرب، ثم أكملت بحسرة: وابني كلامه غير واضح (تمتام وألجن) ثم أمروه بإخراج لسانه معتقدين أنه مخمور وكان سؤالهم، لجان المقاومة بتدفع ليكم كم؟ وبدوكم شنو؟ وبعدها أخذوه إلى قسم "..." فحضرت بدلاً عن والده وهو (خارج السودان).
النظام البائد
وواصلت، كتبنا تعهداً بعدم خروجه في المليونيات مرة أخرى وقبل أن ندخل ونكتب التعهد كنت استرق السمع وهم يتحدثون إلى ابني ورفاقه فكان حديثهم مثل حديث النظام البائد، باغتها سائلة كيف كان حديثهم؟ قالت يقولون لهم "أنتوا ما خايفين على أهاليكم"؟ (وتطلعوا عايزين شنو؟ وما حتستفيدوا حاجة وما حتعملوا حاجة وأنتوا فاهمين الطلوع دا شنو؟) وعندما خرج ابني وقابلته انصدمت من المشهد الذي خرج به من القسم كانت ملابسه ممزَّقة وأخذوا كل مقتنياته من نظارة وسماعة بلوتوث وحذائه وكانت أنفه تنزف ثم أغمضت عينها ومعها "تكشيرة" (كأنها شاهدت منظر ابنها للتو) وهزت رأسها يميناً ويساراً، عندما قالت: كان وجهه فظيع ملئ بالكدمات في جانب العين مع وجود أثر السياط في جسده ورجله معطَّلة لقد قفز له العسكري بالبوت في رجله أثناء جلوسه في البوكس.
تركوهم بالداخليات
ثم قالت بتعجب هل تصدقي يا أستاذة لقد خلعوا كل ملابسهم وهم داخل الحراسة وتركوهم بـ"الداخليات" فقط، وعند ترحيلهم إلى قسم "..." سمحوا لهم بارتداء ملابسهم، سألتها هل تحرَّشوا بهم؟ ردَّت بالنفي، إذاً ما المقصود من ذلك؟ لا علم لي، وكان يقال لهم ألفاظ بذئية جداً، وعندما سألت ابني ماذا كان يقال لكم قال: لا أستطيع ترديدها يا أمي. وعندما شاهدت ابني بهذا المنظر انفعلت حتى أصبت بهبوط وطلبت أورنيك ثمانية وقلت لهم كل موكب سأخرج مع أولادي والتعهد الذي كتبته ( بلوه واشربوا مويتو) فقال لي أحد العساكر: اهدئي وسنعطيك أورنيك ثمانية .
زقاقات الأربعين
قطع حديثها صغيرها محمد المعتقل الثاني قائلاً: والعساكر يقولون لنا اقفز من على الأرض في البوكس مباشرة من غير أن تمسك أو تثبت في البوكس، ثم قال ببراءة وهو غاضب: "وهم العساكر المتدربين ما أظن يطلعوا العربة بهذه الطريقة"، فسألته وأين قبضت؟ قال في زقاقات الأربعين، أخي الأكبر قال لي: ارجع يا محمد يوجد كمين فدخلت بزقاقات الأربعين للذهاب إلى أختي في الهاشماب بدل الذهاب إلى المنزل، فأمسك بي أحد العساكر وسحبني سحباً حتى مستشفى الأربعين، حيث كانت المدرَّعة تقف هناك، وعندما وصلت قال لهم ضابط رفيع: اضربوه ثم ارفعوه في العربة التاتشر، امتص ريقه ثم قال: التفوا حولي أكثر من أربعة عساكر وكانوا يحملون سياطاً خضراء وسوداء، ضربوني ضرباً مبرحاً وبعدها حاول أحدهم أن يحملني ويلقي بي في البوكس فملت عليه واثقلت جسدي، وعندما وصلت القسم كنت لوحدي، سألني أحدهم كل هذا الضرب لم تشعر به؟ قلت له: "أنت مالك ومالي" وأضفت: أنا ما بسمع كلامك (وعندما قال هذه الجمل أيقنت بأنه طفل) وبعدما قلت له ذلك أخذ العسكري عبوة الغاز المسيل للدموع (البمبان) وأراد أن يضربني بها فمنعه زميله الذي كان يكتب في اسمي ويتناقش معه قائلاً: "أنت لا تستطيع أن تفعل له شيئاً وهو في الحراسة لو في الخارج ممكن"، وبعدها أحضروا تسعة أطفال وثلاث بنات وتسعة عشر شاباً، وأكمل حديثه، وهنالك طفل أكبر بقليل أخذوا منه جوال قيِّم جداً، ثم قالوا لي: إذا خرجت مرة أخرى سنأخذ أمك بدلاً منك، فسألته هل خرجت بعد هذا الحديث ؟ لا، لم أخرج ليس خوفاً منهم، ولكن عدد الأطفال أصبح أكثر في المواكب مقارنة بالشباب، لذلك توقفت عن الخروج، قلت له: وأنت -أيضاً- طفل، ضحك ولم يعقِّب على كلماتي.
الزيارة الثانية
كل الانتهاكات مؤلمة ولكن هذا الانتهاك قد يكون الأصعب. شاب في بداية حياته أصيب برصاصة في رأسه دخلت من الجانب الأيمن وخرجت من الجانب الأيسر وعطَّلت حياته تماماً عندما سجلت له صحيفة (التيار) زيارة بمستشفى الخرطوم وجدته مستلقي على سرير وبجواره جهاز لقياس الضغط ودقات القلب وكان ونيسه الوحيد، فهذه الرصاصة أفقدته السمع والنظر وكذلك الذاكرة، وأصبح مستلقي على هذا الفراش لا يتحرَّك، حيث سرد أخاه قصته قائلاً: أخي مهند أصيب بعد الانقلاب المشؤوم في موكب 17 نوفمبر وكان موكب كبير والتجمُّع في استوب السبيل ثم اتجهنا نحو ود البشير، ثم شارع العرضة وعندما وصل الموكب صينية التجاني الماحي تحوَّل إلى مجزرة حقيقية من قبل العسكر.
رصاصة الانقلابيين
صمت برهة ثم أكمل حديثه قائلاً: عندما تم إطلاق الرصاص الحي والمفرط أصابت إحدى رصاصات الانقلابيين أخي الذي لم يكمل العشرين في صينية التجاني الماحي، سقط أرضاً وكان سقوطه ما بين العسكر والثوار، وكان العسكر يقولون وبطريقة استفزازية جداً للثوار : (الراجل فيكم يجي يرفعوا من على الأرض) ومازال الرصاص كالوابل فوق رؤوسنا ولكن بجسارة استطاع أصحابه والثوار جره جراً من على الأرض ولم يكترثوا لتهديد العسكر حتى بترت أذنه أثناء الجر.
مثل النافورة
وقال بحزن بالغ: أسعفناه بالدراجة النارية (الموتر) حتى شارع العرضة ثم أخذناه على ركشة إلى المستشفى، وكان يقول: رأسي رأسي، ومرة يقول: أسناني تريد أن تقع من فمي، وتارة أخرى يقول: رجلي، وأصبح يقول كلاماً غير مفهوم وكان جسمه ملئ بالدم، وحتى الثوار الذين أسعفوه امتلأت ملابسهم وتلطخت بالدم، وعند وصولنا إلى المستشفى خرج دم مثل النافورة من رأسه فعلمنا بعد ذلك بأن الطلقة أصابت الجانب الأيمن من الرأس وخرجت بالجانب الأيسر.
اليوم المشؤوم
وعندما شاهد الأطباء هذا المنظر أجريت له عملية على الفور ووقتها كان الحظ حليفه، لأن طبيب المخ والأعصاب والجراح كانوا موجودين في ذلك اليوم المشوؤم وقاموا بإخراج الرايش والعظام وأوقفوا الدم وبعد خمسة أيام أجريت له عملية وكذلك بعد اثني عشر يوماً، أجريت له عملية أخرى، ثم تجوَّلنا في المستشفيات إلى أن ظل مقيماً في مستشفى الخرطوم وعندما التقيت به قال: إن أخاه أكمل العام وهو مستلقي على فراش المرض وحياته توقفت "هنا".
حقيقة مؤلمة
وبعدها التقيت بالطبيب الذي كان متابعاً لحالة مهند الصحية، وقال: مهند سيظل على هذا الحال حتى ولو سافر إلى الخارج، ولم يستطع شرح هذه الحقيقة إلى أهله (وقبل نشر هذا التحقيق ببضع أيام علمت بوفاة مهند رحمة الله عليه).
ولازال لمآسي الانتهاكات بقية.