dark_mode
Image
   د. عبدالله عابدين يواصل توثيق تجربته مع المد الثوري في ساحة الاعتصام كمشارك و شاهد عيان في السادس و السابع و الثامن من أبريل 2019، و هذه مواصلة لليوم السابع ..

  د. عبدالله عابدين يواصل توثيق تجربته مع المد الثوري في ساحة الاعتصام كمشارك و شاهد عيان في السادس و السابع و الثامن من أبريل 2019، و هذه مواصلة لليوم السابع ..

الحلقة العاشرة 

هكذا وردت قلب الساحة مرة أخرى، لأنهل من منبعها الصافي الزلال، منشدا مع الشاعر الصوفي عبد الغني النابلسي:

 

و من المنبع روحي شربت ..

و بصدر صدرت منشرح ..

 

و لم أنس أن أسأل الشباب عن ماذا يعنون بالهتاف:

 

كبرا .. كبرا ..

بالباب الورا ..

 

فأجابني أحدهم راسما بسمة ثورية عريضة على وجهه الفتي، بأنهم يقصدون بها أن البشير لا يستطيع أن يخرج لمواجهتهم، و الأمر الوحيد الذي يمكنه فعله هو الهروب من البوابة الخلفية للقيادة العامة، أو بأي مخرج سري ..

 

و الثوار أيضا ينعتون البشير ب"بشة".. و في إعتقادي، بل في تحليلي كطبيب نفسي أن مثل هذه الأشياء التي تبدو بسيطة في السطح ليست هي هكذا اذا تعمقنا فيها .. فالثوار تمكنوا من توظيف روح الفكاهة و الكوميديا بصورة بعيدة المنال و الغور.. و بدا أن العقل الجمعي لجيل ثوارنا المغاوير ينسج من تراكم تجربتهم الطويلة في "بيت الفرعون"، نظام الانقاذ، دررا من المعاني البسيطة و العميقة في نفس الآن: بساطة المبنى و عمق المعنى ..

 

أنتبه من هذه الفذلكة حول أدب الثورة كي ألفيثوار القلب النابض للساحة و هم يدورون في دائرتين متعاكستين الواحدة منهم داخل الأخرى بشكل نابض بالحيوية و الروح: فالدائرة رمز روحي قديم و مصدر للطاقة الإيجابية عتيد، و كان هتافهم أمواجا طامحة من بحر الثورة في فيضانه من المنبع حتى المصب:

 

هوي يا البشير أرجع ورا ..

ثورتنا دي ما بتقدرا ..

 

الآن أي حواضر ساحة الإعتصام و قراها سأقصد، و قد أليل الليل بي، و أنا هنا و قد توقف الزمن و لم يعد موجودا بالنسبة لي؟!! ..

 

إنتويت صعود مرتفع السكة حديد التي ما فتئت جماهير من الثوار تتخذ منه مأوى .. و كأنها صبت هناك صبا حتى تطل من عل المكان على أبهاء هذه الساحة التي تتجه الى تكون الأهم في العالم ..

 

أتجه الى أحد الأماكن المناسبة التي يمكنني منها الصعود على الحافة الحجرية لهذا المرتفع .. و غمرني إحساس بأنني أندرج بفعلي هذا في زمرة جديدة من "حجاج" عصر الشعوب و هي تفئ من "كل فج عميق" لإعتلاء خشبة مسرح التاريخ لتعيد كتابة تاريخها الخاص بأسطر من نور: عصر سلام و "عصر ماء"، و ليس "عصر نار" !!..

 

أتمكن في رحلة الروح هذه من إعتلاء "جبل عرفة" ثورة السودان المجيدة، فكيف بدت لى الساحة من هناك، و كيف تجلى لي مشهد الحشود؟ ..  

 

هذه هي "نظرة الصقر" التي تمكننا من الإطلال على "الغابة" بعد أن كنا نجول وسط "أشجارها"..  هي النظرة الأعم، و الإطلالة التي تحققك "لابسا مشتملا" على الثورة: على غرارقول الشاعر الصوفي:

 

و تحسب أنك جرم صغير ** و فيك إنطوى العالم الأكبر..

 

إنطلاقا من هذه الحالة تصبح أنت الثورة، إذ أن فعل الثورة يبدأ أولا في داخلك، متخلقا في ذاتك قبل أن يتجلى مشهدا ثوريا جمعيا مكتملا كهذا الذي أطل عليه الآن ..

 

يا لله .. ما هذه الأنجم او الثريات المتلألئة، هل قبة سماء الساحة انقلبت بفعل من الثورة فصارت تحتنا .. أم أن أنجمها فضلت النزول الى أرض الساحة لتحتفل بأعظم ثورات الأرض، و قد أليل ليل الساحة ؟! .. ينقلب بصري كرتين متأملا في عظمة المشهد تحتنا.. أسأل ثلاثة الشباب الذين بادروا بتحيتي:

 

- يا خال، كيف؟ .. مرة أخرى هذه الكنية الحميمة .. الدافئة.. الدفاقة بالمحبة و الأمل ..

 

دعوني مسبقا الى الجلوس بجانبهم على حافة الخط الحديدي، فاستجبت لدعوتهم بالجلوس، طارحا سؤالي مجددا .. و هو عن ماهية السماء التي تحتفل تحتنا !! ..

أجابني أحد الفتية الثلاثة، مرسلا ضحكة ملؤها الطيبة و الحبور:

 

- دي أنوار الموبيلات ياخال !!..

 

هكذا، اذن، فالعصر الجديد يملأ فراغ الروح بمادة هي أقرب ما تكون الى الروح: الضوء، ممهدا لعصر الشعوب حيث الروح و المادة توأمين لا تنفصم عراهما .. يسيران معا في فجاج  هذا الوجود الملفوف بالغموض .. سمتا فوق سمت:

 

من الخبز بدء ..

الى الحرية الغالية ..

أم القيم الإنسانية ..

ثم الى الحياة ..

الحياة ..

 

تهادى الحديث بيني و بين الفتية، حديث عن جيلي و جيلهم، و عن تواصل جيل الثورات الذي لا تنفصم عراه من أكتوبر ٦٤، عبر أبريل٨٥، و الى ديسمبر 2018 ..

 

و عندما علم الشباب أنني قادم من خارج السودان، تداعى الحوار معرجا على محطات الهجرة و الإغتراب التي تصاعدت بوتائر غير مسبوقة في عهد الإنقاذ الأغبر تفاديا لحلقات القهر و الضيم الذي حلت موجاتها الكاسحة .. ثم استحالت في قمتها الى "سونامي"، جارفا جيلا برمته.. و من ثم قضى على طبقة بأكملها، هي الطبقة الوسطى، في محاولات مستميتة و ممنهجة لتقليم أظافر شعب السودان و نخبه، و من ثم تمكين نظامهم المتأسلم في أرض السودان ..

 

و كان أن تحدثنا عن طول أمد نظام الإنقاذ،و كيف طغى و تجبر،  ثم أوفينا في الحديث على القمة التي نجلس على عرشها الآن و كأننا عماليق من عصر أسطوري حل بنا: "عصر شعوب" تراكمت أمواجه خلف سد القهر و الطغيان، ثم انمهمرت كاسحة إياه في طريقها اللاحب، و ما تزال !! ..

                                                                                                                                     يتبع ..

comment / reply_from

جميع الحقوق محفوظة لصحيفة التيار