تقارير

٦ أبريل.. فجر الخلاص ..!

(التيار) تروي مشاهدات من داخل المعتقلات والسجون

تتعثر الكلمات، وتأبى الأحروف أن تتطوع لتكتب عن موكب السادس من أبريل 2019 “موكب السودان الوطن الواحد”، ويعد 6 أبريل أهم يوم في تاريخ السودان الحديث، فكان ذا وقع مدوٍ أرعب قيادات النظام البائد وفلوله وقوض سلطتهم، فهو اليوم الفعلي الذي أسقط فيه السودانيون أعتى نظام قمعي ووحشي، فحكومة الحركة الإسلامية التي فتحت في كل سوداني جرحاً لا يبرأ مع مرور الأيام شهدت حتفها يوم 6 أبريل أمام البسالة وصمود الثوار والكنداكات، ففي هذا اليوم خاضوا معركتهم بصدور عارية في مواجهة رصاص أمن البشير وكتائب ظله التي حصدت الآلاف منذ توليها الحكم، في مشهد يطغى على ذكرى معركة كرري المعركة التي لا تزال راسخة في أذهان الشعب، فموكب ستة أبريل يوم ناصع في تاريخ البلاد.

هذا التقرير يتناول مشاهد حية منذ صباح السادس من أبريل مروراً بانطلاق الموكب والالتحام مع قوات الأمن ومن ثم موقف أبو جنزير محل الاحتجازات المؤقتة، وبعدها يدلف إلى نقل الثوار إلى موقف شندي مقر الاعتقالات الذي يتبع لجهاز الأمن، ويتوقف في سجن الهدى الذي ضم حوالى (2500- 3000 آلاف معتقل من موكب السادس من أبريل).

توثيق: محمد إبراهيم

فيد باك ..!

ففي يوم الجمعة الخامس من إبريل قبل يوم من فجر الخلاص، تملكت الثوار وجموع السودانيين حالة من (الترقب والخوف)، الترقب لليوم المشهود والمشاركة الفاعلة في اليوم التاريخي، والخوف من الاعتقال قبل المشاركة في الموكب المفصلي، حينها لم يكن أحد خائفاً من الموت فالجميع خرجوا وأكفانهم في أيديهم، وينطبق على الثوار في ذاك اليوم .

خرجوا ..

وما نزع الرصاص قلوبهم

بل زاد جمر مُضيهم فَتَسعروا

سالوا دماءً

واستفاضوا أنفسًا

وقضوا حياتهم ولم يتقهقروا

مواكب ما بتتراجع تاني ..!

كان للسادس من أبريل الوقع المفصلي في تاريخ ثورة ديسمبر، فباتت الثورة تعرف بما قبل 6 أبريل وما بعدها، فطوال شهر مارس بعد أن انحسرت المواكب نسبياً مقارنة مع نهاية ديسمبر ويناير فبراير، فكانت خطتة تجمع المهنيين هو تحويل كل مواكب مارس لمواكب تعلن لموكب ستة أبريل، فتولت لجان المقاومة في المدن كافة مهمة الترويج للموكب عبر الكتابة في الجدران والطرقات الرئيسة وتصميم فيديوهات وبوسترات في وسائل التواصل الاجتماعي، تجمع المهنيين حدد مسارات الموكب نحو القيادة العامة للقوات المسلحة، الساعة الواحدة بتوقيت الثورة، وكان التجمع قد أصدر تعميماً داخلياً لمكوناته بأن يحدد كل مكون نقاطه السرية ويدعوا أنصاره لتسيير الموكب نحو القيادة، وبحكم عضويتي في شبكة الصحفيين السودانيين كنت مشاركاً في الإشراف على موكب الشبكة الذي حدد من تقاطع المجلس الثقافي البريطاني بوسط الخرطوم .

الأرض تهتز تحت قدم الطاغية ..!

إستيقظت الخرطوم يوم السبت السادس من أبريل، بصمود وتحدٍ عالٍ لدى الثوار، وتوشحت وسط الخرطوم بثوب “الرعب والحذر”، رعب دب في مفاصل النظام الشمولي لآن الأرض تهتز تحت قدميه، فما كان من النشر الكثيف للقوات والقمع الشرس للثوار إلا دليل رعب وخوف والعمل على حجب ضوء الشمس براحة اليد، وخوف من فقدان السلطة والذهاب لمزبلة التاريخ، فعند الساعة التاسعة صباحاً كنت قادماً من أم درمان صوب مقر صحيفة (التيار) في شارع الجمهورية، فنشر النظام آلته القمعية بكثرة، وقام جهاز الأمن بإغلاق كل المحلات التجارية في السوق العربي وكانت هي المكان الأمثل للثوار أن يختبئوا فيها لحين موعد انطلاق الموكب، وفي موقف الاستاد وجاكسون عندما تتوقف الحافلات والهايسات القادمة من أم درمان تجد أمامها سيارات الدفع الرباعي لجهاز الأمن سيء السمعة، ويقوم أفراد الجهاز بإيقاف واعتقال كل شاب يُرجح بأنه قدم للخرطوم للمشاركة في الموكب، فقبل انطلاق الموكب إعتقال الجهاز المئات من الثوار ولا سيما في وسط الخرطوم بشارع الجمهورية.

زغرودة الإنطلاق..!

أمام المجلس الثقافي البريطاني بوسط الخرطوم نقطة الانطلاق التي حددتها شبكة الصحفيين، حينما كان الجميع يراقب الأوضاع بصمت، وبدون مقدمات قطعت كنداكة صمت الثوار بزغرودة شقت عنان السماء، وغذًت الكنداكة الحماس الثوري وتعالت الهتافات  الداوية في جميع الأرجاء، في تلك اللحظة كانت ظهرت سيارتان تتبعان لقوات العمليات بجهاز الأمن ممتلئة بالجنود، لم يعرفوا من أين خرجت تلك الحشود وأين كانت تختبئ! وجدوا أنفسهم في منتصف الموجة الهادرة، وفي لحظة ذاك الحماس الثوري وكثافة العدد من الثوار، لوح عدد من عناصر الجهاز للثوار بعلامة النصر المعروفة، وانهالت عليهم الحجارة من كل جانب، وعندما خرجوا من تلك الحشود، أمطر أفراد الجهاز الثوار بوابل من الغاز المسيل للدموع مصحوباً بطلق مطاطية، وذخيرة حية مصوبة نحو السماء، تدفقت السيول البشرية متجهة شرقاً صوب تقاطع البلدية مع المك نمر في طريقها إلى القيادة العامة، وهنا استضم الثوار بجيش جرار من قوات هيئة العمليات والشرطة الأمنية يطلقون الغاز المسيل بكثافة وعشوائية، وأطلق أصحاب المركبات أبواق السيارات عالياً مما زاد الحماس وأدخل الرعب في قلوب بيادق البشير.

وعندما إزدات القبضة الأمنية بانتشارها الكثيف وزيادة إطلاق الغاز المسيل للدموع، تفرقت السيول في جميع الاتجاهات، وكان دوري في الموكب أن أوجه الثوار نحو القيادة العامة، بدلاً عن ذهابهم في الاتجاه الغربي، وكنت في مؤخرة الموكب، وهنا تم اعتقالي برفقة زميلاتي في الشبكة سارة ضيف الله وعائشة السماني حوالى الساعة الواحدة ونصف .

 

الاعتقال ..!

كان اعتقالنا في تلك اللحظة يمثل خيبة أمل وحسرة كبيرة، ولا سيما وأننا على بعد خطوات من دخول محيط القيادة العامة، هذا الإحباط تغلب على ألم الضرب والتنكيل الذي وأجهنا به أفراد الجهاز ، بسرعة فائقة ذهبت بنا سيارات الدفع الرباعي صوب ميدان أبو جنزير بالقرب من عمارة الذهب، حيث يتم تجميع المتظاهرين هنالك، فعلى بعد خطوات من وكر الشيطان تبدأ حفلة الضرب بالسياط والهروات، وتم وضع الفتيات في خيمة أقصى شمال شرق الحوش والأولاد في فناء الحوش في الشمس الحارقة.

يرتفع حاجب الدهشة أمام الأعداد المهولة من المحتجزين، فكما ذكرنا سابقاً بدأت الإعتقالات منذ الصباح الباكر وعندما تم إحضارنا للحوش كاد أن يمتلىء، في هذا المكان تواجه أسوأ أنواع السودانيين، يصرخون بشكل جنوني ويصعقون الثوار بعصايات الكهرباء ويتعمدون الإذلال الممنهج.

ما بين القضبان ..!

بعد أن تم حبسنا في أبو جنزير لأكثر من ثلاث ساعات مع إنشغال أفراد جهاز الأمن بالضرب المبرح، لم يستطيعوا تقييد أسماء الذين تم إلقاء القبض عليهم بعد الساعة الواحدة ولم يستلموا هواتفهم لأن العدد فوق طاقتهم، وكنت من ضمن الذين أحتفظوا بهواتفهم مع قلتهم، وفي أبو جنزير تنامت إلى مسامعنا أن القوات المسلحة بدأت في حماية المتظاهرين وإستطاع الثوار إقتحام القيادة العامة، الفرحة والحماس عمت الجميع على حساب الإنهيار والصدمة التي شاهدنا في عيون منسوبي الجهاز ، بعد هذه المدة تم ترحيلنا إلى موقف شندي عبر عدد كبير من البصات، وهنا بدأت حفلة أخرى من الضرب خاصة للطلاب صغار السن، بعد أن تم فرز المعتقلين ما بين موظفين وعمال وطلاب، ومع وقت الغروب إرتخت القبضة الأمنية قليلاً في الساحة الكبيرة بموقف شندي وتحسن تعامل أفراد الجهاز مع المحتجزين، وإستطعت ان أدخل إلى دورة المياه، وفتحت هاتفي لأتصل بمدير تحرير صحيفة التيار وعضو سكرتارية شبكة الصحفيين الأستاذ خالد فتحي لأبلغه بمكاني ولأعرف منه التطورات في الميدان، فلم أصدقه عندما أخبرني بالملايين التي تحتل محيط القيادة العامة للقوات المسلحة وأن الثوار كسروا محيط بيت الضيافة مقر منزل الرئيس المخلوع، فكان هذا النبأ البلسم الشافي للإحباط والقلق الذي ساور الثوار جراء إنعدام الأخبار من الخارج، وهذا فسر لنا التعامل اللين من قبل أفراد الجهاز.

أفتح زنازينك ..!

بعد صلاة العشاء في ذات اليوم تم إخراجنا من موقف شندي، وتحركت بنا البصات لاندري إلى أين يأخذوننا، وجميع المعتقلين في البص أجبروا على وضع رؤسهم بين أرجلهم، مع الإستمرار في تعمير الأسلحة في وجه المحتجزين من قبل منسوبي الجهاز، وعلمنا منهم أننا بصدد ترحيلنا إلى سجن الهدى شمالي أم درمان، في الطريق سمعنا هتافات قوية ” حرية سلام وعدالة، وتسقط بس” مع روائح الإطارات المحروقة، هذه الهتافات والأحداث التي سمعناه منذ خروجنا من مقر موقف شندي وعلى طول الطريق، أشعرت المعتقلين بالإطمئنان وأن الثورة لا تزال متقدة، وأن لحظة سقوط الطاغية قد دنت.

عندما وصلنا سجن الهدى أصبحنا في قبضة شرطة السجون، وهنا تغير التعامل بسبة 100%، وتلاحظ الإبتسامة ترتسم في شفاه جنود وضباط سجن الهدى ، حينها خاطب مدير السجن المعتقلين وأبلغهم بأنهم هنا ليس بأمر جنائي إنما هم ضيوف وليس هم الجهة التي ألقت القبض عليهم، ووجدنا أعدداً كبيرة من المعتقلين على حسب تقديراتي يتراوحون ما بين (2500 -3000 ) معتقل من الشباب فقط، أما الفتيات فتم ترحيلهن إلى سجن النساء أم درمان، وفرت إدارة السجن للمعتقلين الماء والعشاء وتم علاج المصابين منهم في الموكب أو الذين يعانون جراء الضرب المبرح الذي تعرضوا له، ومع علمنا بأن الثوار لا يزالون يحيطون بالقيادة تعالت الهتافات داخل السجن، وإرتفعت الحماسة إلى قمتها متجسدة في أبيات شاعر الشعب محجوب شريف .

جيناك مرفوعي الرؤوس

افتح زنازينك أهو بنفتح صدورا ماتكوس الرحمه تب

مافينا مرقا فيه سوس

بل فينا عرقاً من جذور الشعب عشقا لا يداس

نحن بندوس على كل من عايز يدوس

خرجنا من سجن الهدي مساء الثامن من إبريل، والمواكب تنتظر الثوار في الخارج، ختام القول أن موكب ٦ إبريل كان يوماً لا ينسى من البسالة والشجاعة والصمود إنهزمت فيه الإنقاذ بترسانتها الأمنية والعسكرية أمام الإرادة الشعبية .

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى