مقالات وآراء

يا لون المنقة

د. الطيب حاج مكي

في مناسبة شهر رمضان المعظم ترتفع أسهم الفاكهة بعامة وتبعاً يرتفع الطلب على اثنين البرتقال والمانجو. بهذه المناسبة أشير، إلى أن استهلاك العالمي من هذه المنتجات في ازدياد مضطرد ما يطرح فرصًا هائلة لصالح المزارع السوداني والاقتصاد الوطني. وشرط الاستفادة أن يحسن قادة الاقتصاد والتجارة والاستثمار صنعاً بوضع رؤية تقود تفكيرنا نحو تلك الفرص. وللتدليل على الفرص، ما أظهرته البيانات التجارية للولايات المتحدة الأمريكية المنشورة هذا الأسبوع، بأن واشنطن، استوردت ما مقداره 573,792 ألف طن، من فاكهة المانجو لوحدها. وهذه الكميات وفرتها بعض دول أمريكا اللاتينية، ولكن بنسبة زيادة ناهزت 2.5%عن العام 2021 وبما يتجاوز 6.5% عن العام 2020م. وحظيت دولة المكسيك بالمرتبة الأولى من الحصة السوقية، بينما جاءت البيرو والأكوادور في المرتبة الثانية والثالثة بنسبة 12.4% و 8.9% على التوالي. الملفت في هذه البيانات حجم أسواق المانجو العالمية وما تطرحه من فرص لبلاد مثل السودان. ما يعني أن على المهتمين والمسؤولين التفكير معًا في إيجاد وسائل لتسويق المنتج السوداني ونقله من خانة الحظ العاثر، إلى مربع الأمل والعائد المحفز. فاكهة المانجو السودانية للغافلين عنها، يمكن أن تحقق إيرادا سنويًا لا يقل عن خمسمائة مليون دولار. وبأقل جهد واهتمام بمنتج يمكن أن يكون له دور في الاقتصاد الوطني والتنمية المحلية. المشكلة في غياب رؤية تنتشل المانجو ومعها بلادنا من التخبط ونهج الاحتطاب ليلاً. فكم من المسؤولين يدرك أن موسم المانجو السوداني يمتد لسبعة أشهر في السنة. وكم منهم يدرك أن التنوع المناخي في مناطق السافنا وشبه السافنا يساعدنا بتزويد الأسواق المجاورة بنسبة معتبرة من استهلاكها وعلى مدى سبعة أشهر. فحزام المانجو السوداني من تنوعه يمتد من أبي جبيهة و(تجملا) إلى جنائن بارا ونيالا فضلاً عن الشمالية والجزيرة والنيل الأزرق ونهر النيل وشرق السودان. ومن المشاهد الحاضرة هنا عن جنائن وادي نيالا، بأنه في موسم الإنتاج (تسفلت) المانجو أرصفة سوق (أم دفسو) القديم بعصيرها وعصير قصب السكر. وتتحوَّل أرضية السوق إلى ما يشبه طريقًا معبدًا ولكن بعصير الفاكهة التي ترمى على الأرض. وفي أبي جبيهة كما في نيالا تفيض المزارع بإنتاجها دون أن تجد سوقًا فيضطر المزارع ليقدم المانجو علفًا للمواشي. وحين تراجع أعداد المواشي، أصبحت المانجو (البايرة) في أشجارها لتتساقط وتتحوَّل لمرتع للحشرات والذباب. يحدث هذا بينما يكون المزارع يعاني الفقر ويتردى في تكاليف الزراعة ويحدث بينما المستهلك في الأسواق الخارجية حاله كحال من قال (تموت الأُسد في الغابات جوعاً ولحم الضان تأكله الكلاب) فهو في أمسَّ الحاجة لهذا المنتج. في عام 2014 أنشئ مركزًا متخصصًا في معالجة المانجو السوداني والتعقيم البستاني. وكان يستهدف زيادة صادرات الفاكهة السودانية إلى الأسواق العربية. تم وضع سقف معقول، للإيرادات الصادر في حدود عشرة ملايين دولار. ونجح المركز حسب التقارير في عمليات التعقيم وتغليف المانجو. بدليل أنه تمكن من تصديرها لكثير من أسواق الدول العربية. وصار للمنتج نصيب من الحصة السوقية العربية في فترة وجيزة. ولكن يبدو أن عدم موثوقية سلسلة التوريد قعدت بنجاح المركز. ولكي يستعيد السودان الحصة السوقية، يحتاج لتلبية شروط المواصفات والمعايير التي تضعها الأسواق العربية. وأهمها تعقيم الفاكهة بالبخار الرطب على درجة حرارة تبلغ (46.5) درجة مئوية لمدة نصف ساعة وعلى عبوات بلاستيكة. وأن تتضمن الشحنة شهادة منشأ وملصق يؤكد مواصفات التعقيم وبيانات الوزن وسجلاً بدرجات الحرارة. وتوقع الجهة الرسمية المفوضة على الوثائق. والأهم أن تتوفر موثوقية في سلاسل الإمداد بحيث يمكن الاعتماد عليها. الاستهلاك السنوي للسوق العربي يقدر بمليار دولار. ما يعني أنه يستحق العناء بوضع رؤية تلبي كافة الشروط وكل معايير المواصفات الموضوعة. غني عن القول إن الفشل في سوق المانجو ليس بمعزول عن الفشل الشامل الذي أدخل بلادنا في قائمة الدول الفاشلة. الدولة الفاشلة هي من تهمل مواردها المهمة كالصمغ والذهب والقطن ومدخلات الزيوت والأهم طاقات شبابها ولا تهتم بأمن مواطنها ولا بعيشه الكريم. والشاهد أن هذا الفشل متى التفت ألفته يمشي على قدمين. والمطلوب من المهتمين بتلافي الفشل وبنمية ثروات السودان دراسة أسبابه وتشارك الرؤى حول العلاج. هناك ضرورة لتجاوز الاستنتاجات المكرورة، أي وجود فقر مدقع في بلد باذخ الثراء. نحتاج لوضع رؤية على طريقة (عملية إعادة هندسة الأعمال Reengineering) تكون قابلة للتطبيق تبدأ بإخراج المنتج الزراعي من حفرة الفشل المقيم إلى بر واعد ومحفز. بدأ العلاج بالمزارع وتمويل العمليات الزراعية لأن الزراعة تمثل مهنة 66% من الأمة السودانية. ثم تحفيز تكوين قطاع خاص مواكب وتشجيع المبادرات الإبداعية وخاصة الصناعات التحويلية والخدمات اللوجستية ذات الصلة. الوضع الحالي للاقتصاد السوداني مفزع وفق تقارير بنك السودان (الميزان التجارى : 2022 صادرات : 4,357,418 دولار ، واردات : 11,094,849 دولار والعجز : 6,737,431 دولار) أي أن العجز يقارب السبعة مليار دولار، هذا يستدعي رؤية تأخذ في الاعتبار الأسباب الجوهرية للفشل وهدر الموارد وانتشار الفقر وإهمال الفرص كما في حالة الطلب على مننتج المانجو في أسواق هي على مرمى حجر. فالسودان يعيش حالة (اللامشروع) اقتصادي ويعيش حالة اللا رؤية. وهكذا ستأتي مواسم وتعدي أخرى والحال في حاله إن لم يبادر أهله المخلصون. في الجارة مصر تم تطوير رؤية للقطاع البستاني قبل عامين وفق أهداف محددة. واليوم أضحت مصر تحمل لقب أكبر مُصدر للبرتقال في العالم، إذ لديها 23,910,000 شجرة برتقال، منها 13,910,000 بدأت الإنتاج للموسم الحالي. وبدأت التصدير لأوربا من يناير وستستمر حتى أبريل أرجو أن يكون هذا محفز للتفكير بتنمية بعض القطاع وهذا المنتج الذي تغنى به سيد خليفة (يا جزيرة توتي يا جنة) وغنت بها البلابل (يا لون المنقة الشايل المنقة).

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى