ورطة البلاد السياسية وأزمتها الوجودية

الوليد آدم مادبو
عوضاً عن أن تدفع نحو تنحي القيادات العسكرية الحالية برمتها وتولي قيادات بديلة للشأن العسكري، اتخذت (قحت) من الدعم السريع رافعة عسكرية في مواجهة الجيش السوداني، الأمر الذي استفز قادة الجيش وجعلهم يصرون على توحيد القيادة العسكرية مهما كلف الأمر، إذ لا يمكن لبلد أن يكون فيها جيوش عديدة تحمل ولاءات سياسية مختلفة غير التي تتعلق بمصلحة الوطن. لماذا إذن التركيز على الدعم السريع؟ ببساطة لأن قائده اتخذ من (قحت) رافعة سياسية بعد أن فشلت الرافعات العشائرية والدينية. لقد اصطدم طموح حميدتي الشخصي بطموح قائده الذي ظن حتى زمن قريب أنه يمكن أن يستخدم حميدتي بيدقاً في مواجهة الجيش الذي يسهل عليه تحت أي ظرف إحالة البرهان للمعاش كما فعل الأخير بابن عوف. على غرار ما فعل البشير، فقد استطاع قائدا الجيش والدعم السريع أن يجعلا من أزمتهما الشخصية ورطة البلاد السياسية وأزمتها الوجودية. بيد أن ورطة حميدتي أكبر من ورطة البرهان بكل المقاييس، فالمواجهة العسكرية مع الجيش ستجعله في مواجهة قوى إقليمية ودولية، والمواجهة المدنية ستجعله في مواجهة المقاومة الشعبية التي ترفض الاستسلام لقائد “مليشيا” مهما اقتضى الأمر. فلا يغرنّه تطمينات (قحت) له فهؤلاء أغرار لا يعرفون للحكم قراراً إن توحيد القيادة العسكرية أمر لا يحتمل التأجيل ولا يستغرق عشر سنوات، كما هو منصوص عليه في الاتفاق الإطاري، بل يمكن أن يتم دمج الدعم السريع كوحدة مثلها مثل المظلات أو المدرعات -دون النظر إلى تفاصيل المكوِّنات والتي يمكن أن تعالج لاحقاً- في ساعتين وليس عامين كما يزعم قادة الجيش وذلك بإعفاء قادته من مناصبهم التنفيذية مع الإبقاء على مواقعهم السيادية أو الإدارية في مجلس الأمن والدفاع. إذا استبعدنا الضمير والوطنية كمحفزات ودوافع للحادبين على مصلحة الوطن، فإن إكراهات الواقع تحول دون وصول القائدين، برهان وحميدتي، إلى الحكم. فالأفضل لهما أن يسعيا لتوفيق أوضاعهما اليوم قبل الغد وألّا يتخذا من الشعب رهينة كما فعل البشير فمآله الجنائية الدولية هو وأقرانه طال الزمن أم قصر. إن الإشكالات الهيكلية والبنيوية التي تعاني منها المؤسسة العسكرية إشكالات حقيقية لكنّها لا يمكن أن تعالج في غياب قيادة عسكرية موحدة وفي مناخ يتسم بالاستقطاب والاستقطاب المضاد. بالنظر إلى حالة السيولة السياسية الراهنة، فإن الجيش -بكل ما فيه من علل- يظل “رومّانة الوسط” التي تعطي الوطن توازنه، فالواجب أن نحرص عليه من تغول المتغولين وتنطع المتنطعين. أمّا الزعم بأن الجيش لديه حمولات أيديولوجية وتبعات كيزانية فهذه فزّاعة استخدمتها (قحت) لتؤلب مشاعر الجماهير وتجعلهم يشكّون في ولاء العسكريين للوطن، تماماً كما فعل العلوج في العراق الذي أضحى مستباحاً عرضه عشية الغزو الأجنبي لساحته وفنائه. ليس لديَّ شك في أن هذه المؤسسة العريقة ستخرج كتيبة تحسم هذه الفوضى السياسية والعسكرية وتنفض العار الذي علُق بهذه المؤسسة الوطنية الأصيلة. قد يتبدَّل الأفراد بيد أن المؤسسة تحتفظ بذاكرتها التي تستدعي أمثلة أفراد أفذاذ تخرجوا من عرينها وتستنفر في الوقت المناسب قيمهم التي حافظوا عليها رغم الضيم. سألت والدي الدكتور آدم مادبو أطال الله في عمره والذي كان وزيراً للدفاع في حكومة المحجوب (٦٦-٦٧) عن سلوك الضباط في زمن الخواض وزملائه العظام، فقال لي: كانوا أكثر الناس أمانة، أنبلهم خصلة وأعظمهم تضحية في سبيل الوطن. ما زلت أراعى حلمه عندما أناقشه في تصرفات القادة اليوم، فهو لا يظن مطلقاً أنهم يسرقون، يكذبون، ويخادعون الشعب دون أن يطرف لهم جفن. لقد عاش الرجل في العهد الجميل الذي يستدين فيه الوزير من سيد الدكان، ويستأجر الأخر بيتاً وهو وزيراً للإسكان. إن أي محاولة لتعجيل الانتخابات كالتي تؤرخ لها (قحت) هي بمثابة الدخول في تجربة حكم غير ناضجة وبمثابة مغامرة ستدفع البلاد دفعاً نحو الهاوية (في هذه الحالة المعادلة الصفرية)، ليس هذا فقط، بل إنّ ذلك أيضاً سيؤجج عواطف الجماهير كأن ترفع أمالهم وتُعلي من توقعاتهم. الأخطر، إنّها ستفل في عضد المؤسسات المتهالكة أصلاً. إن الأولوية يجب أن تكون للحوكمة وإمكانية التجربة الديموقراطية للاستدامة وليس للديموقراطية. أذكر في هذه السانحة مقالاً للمرحوم دكتور الطيب زين العابدين تكلم فيه عن الديموقراطية التوافقية (يمكن الرجوع إليه في الانترنت). وحدها فقط فترة انتقالية مُطولة، كما يقول الأستاذ محمد سليمان (حق)، يتوافق ويتراضى عليها الجميع يمكن أن تعيد لهذا الوطن توازنه وتحقق له استقراره. إن الانقسامات الفئوية والمناطقية التي يعاني منها الوطن لا يمكن أن تعالج في عامين، فهناك قانون الانتخابات الذي يلزم أن يصمم بناءً على التوزيع الجغرافي والثقل السكاني وقانون الأحزاب الذي يجب أن يعالج الانقسامات الرأسية والأفقية للكانتونات الأسرية التي تُسمّى زوراً وبهتاناً أحزاب قومية. إن أيّاً من القضايا الخمس التي ناقشتها الورش يمكن أن تأخذ عشرات السنين، لا سيما أن الاستعجال المخل في مثل هذه القضايا المعقدة يمكن أن يأتي بنتائج عكسية. يلزمنا أن نتمهل وأن نصطحب معنا تجارب الدول اللاتينية والأفريقية التي مرت بمثل مآسينا وفي ظروف أشد تعقيداً. هذه القضايا يلزم أن تترك للمختصين الذين يراعون الضوابط المهنية قدر ما يقيمون وزناً للموجهات السياسية. ختاماً، يجب أن لا يقف المثقفون الوطنيون متفرجين ولا أن ينتظروا فتحاً من الفاعلين الحاليين في المسرح السياسي، فهؤلاء مجهدين في أحسن الأحوال ومغرضين في أسوائها، بل عليهم أن يعملوا فكرهم لخلق منصة تعنى بالسياسات، تدرس السيناريوهات، وتقدم المقترحات التي تنقذ البلاد من حالة الاستقطاب الحالي وتقرّب من وجهات النظر بين أبناء الوطن الواحد. إذا كانت النخب قد عانت في السابق من الفشل فإنّها اليوم تعاني من الانعزال وعدم الانشغال بالشأن العام (كما يقول صديقنا العزيز محمد سليمان الفكي الشاذلي). ستواجه القيادات السياسية والمدنية القادمة -حال الخروج من النفق المظلم دون اقتتال- معضلة التعامل مع الآليات المتعددة (الثلاثية والرباعية والأممية وهلم جرا)، فهذه يجب أن يتم التعامل معها بدبلوماسية لا تمس أو تجرح السيادة الوطنية.