محاكمة ترامب ومسألة سيادة القانون

الجديد في قضية ترامب أنه أول رئيس يمثل أمام المحكمة وتوجه له 34 تهمة بعضها تصنف على أنها ذات طبيعة جرمية، يمكن أن تؤدي به إلى السجن
عبد الحميد صيام
كم لنا من المآخذ على سياسات الولايات المتحدة الداخلية والخارجية. ونستطيع أن نسترسل في سلسلة من المقالات حول مثالب النظام الأمريكي في العديد من المسائل التي تتعلق بحقوق الأقليات، ومعاملة المهاجرين والتمييز بين أطياف السكان، سواء بسبب اللون أو المعتقد أو الجنس أو الوضع الاجتماعي، لكن الشيء الذي لا بد من أن نقر به ويبدو جليا هذه الأيام، مسألة سيادة القانون نصا وممارسة.
هذا لا يعني أن ليس هناك ثغرات في القانون الأمريكي، بل العكس هو الصحيح. لكن إمكانية التهرب من القانون وأحكامه لا يتم إلا عبر مسارب ومداخل وثغرات قانونية، لكن الحقيقة تبقى أن لا أحد في هذه البلاد فوق القانون، رئيسا كان أم مواطنا عاديا، مليونيرا أم معدما. فإذا ما ثبت بالدليل القاطع، وبعد محاكمة عادلة يستطيع المتهم فيها أن يدافع عن نفسه، أن الشخص المذكور قد انتهك القانون، أو ارتكب جنحة أو جريمة، فلا بد من أن يأخذ القانون مجراه. وكي يتم التأكد من أن الشخص مذنب، يتم اختبار عدد من المحلفين الذين يتابعون جلسات المحاكمة من البداية حتى النهاية، ثم يصوتون في ما بينهم على خيارين لا ثالث لهما: مذنب أو غير مذنب. فإذا اتفقت الغالبية على أن الشخص غير مذنب، يطلق سراحه وإذا كان مذنبا يعود الأمر للقاضي لمراجعة القانون والنطق بالحكم. وللقاضي هامش من الحرية في تطبيق العقوبة بين حديها الأدنى والأقصى، وبين مدة السجن الفعلي واستكمال العقوبة خارج القضبان.
سوابق تاريخية
صحيح أن هذه هي المرة الأولى التي يقف فيها رئيس سابق للولايات المتحدة أمام القضاء متهما وبطريقة ذليلة. عنجهية ترامب تحطمت وهو يدلف إلى قاعة المحكمة ليسمع قائمة مكونة من 34 تهمة، رفضها جميعا وادّعى أنها تهم سياسية لتعطيل إمكانية فوزه في انتخابات 2024، التي ما فتئ يؤكد لأنصاره بأنه فائز فيها لا محالة. لكن هذه ليست المرّة الأولى التي توجه فيها تهم للرئيس أو مرشح الرئاسة بارتكاب انتهاك للقانون. لقد جرت في السابق إدانات لرؤساء داخل الكونغرس، وهو ما دفع بالرئيس الأسبق ريتشارد نيسكون للاستقالة عام 1974 بعد أن بدأت إجراءات سحب الثقة منه في الكونغرس والاستعداد لمحاكمته بسبب انتهاك الدستور في قيامه بالتجسس على الحزب الديمقراطي، في ما عرف بفضحية «ووترغيت». وكانت الغالبية الساحقة ستدين نيكسون (412 مقابل 3) لكنه استقال قبل إجراءات الإدانة. كما جلس الرئيس كلينتون لساعات متواصلة في أغسطس 1998 للتحقيق معه في مسألة علاقاته مع موظفة البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، ليس لأنه أقام علاقات جنسية معها، بل لأنه كذب أمام الناس جميعا، وأنكر تلك العلاقة وبالتالي انتهك القانون. وقد أدين داخل مجلس النواب (1998) ولكن لم تتم إدانته في مجلس الشيوخ. وحتى يتم عزله عن الرئاسة يجب أن يدان في المجلسين، كما أدين الرئيس السابق دونالد ترامب (2019) في مجلس النواب فقط. وهناك ثلاث جرائم قد تؤدي إلى الإطاحة بالرئيس من المكتب البيضاوي: إذا صوت المجلسان على إقالته، وإذا وجد منتهكا للدستور وارتكب الخيانة، وإذا قدم الرشاوى أيا كانت. في كثير من البلدان الديمقراطية تتم ملاحقة الرؤساء بعد سقوط حصانة الرئاسة عنهم، فقد أدين كل من الرئيس الفرنسي ساركوزي بعد مغادرته قصر الأليزيه، وكذلك رئيس الوزراء الإيطالي بيرلسكوني. الرئيس الحالي للبرازيل أودع السجن بتهمة الفساد وقضى ثلاث سنوات، والرئيسة الأرجنتينية السابقة كريستينا فرناندس، حكمت بالسجن ست سنوات بتهمة الفساد. أنديرا غاندي وبنظير بوتو كلتاهما خرجتا من السجن وعادتا لمنصب رئيس الوزراء. وكما دخل إيهود أولمرت، رئيس وزراء الكيان الأسبق، السجن بتهمة الفساد فإن رئيس وزراء الكيان الحالي نتنياهو، وجهت له ثلاث تهم تتعلق بالفساد ويحاول أن يتخلص منها عن طريق الحصانة.
ترامب.. جرائم أم مطاردة سياسية
لا شك بأن ترامب لم يكن رئيسا عاديا. فهو جاء من خارج الأحزاب وقفز إلى الحزب الجمهوري، الذي وصفه قبل دخولة معترك السياسة بأنه «حزب الأغبياء». مؤهلاته أنه رجل أعمال ناجح كدس ثروة هائلة، يظن أنه بماله يشتري كل شيء بما في ذلك صمت الغواني اللواتي عاشرهن. ليس لديه مبادئ أو قيم عليا. يتعامل مع كل القضايا من منظار الربح والخسارة. لا يثق بأحد إلا بعض، وليس كل، أفراد عائلته. انقلب على جميع من عملوا معه وتم تغيير الوزراء بمعدل ثلاثة لكل موقع. يغير رأيه من دون سبب، ولا يحترم بروتوكولات التعامل لا مع المسؤولين المحليين ولا زعماء الدول الأخرى، حتى أقرب الحلفاء للولايات المتحدة، حيث أساء الأدب مع الكثيرين مثل أنجيلا ميركل المستشارة الألمانية، وكذلك الزعماء العرب، خاصة السعودية وأطلق على الرئيس السيسي «ديكتاتوري المفضل». كان يكذب بلا تردد ولا يتورع عن إهانة الصحافيين والمستشارين والأقليات والمعاقين وحتى ضيوف البيت الأبيض. لديه ازدراء غريب للقانون الدولي فقد قرر الاعتراف بضم إسرائيل للجولان السوري المحتل، وقرر الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ووضع حظرا على دخول قضاة المحكمة الجنائية الدولية الولايات المتحدة فقط لأنهم أثاروا مسألة التحقيق مع إسرائيليين. انسحب من اليونسكو لصالح إسرائيل واتهم يهود أمريكا بأنهم لا يؤيدون إسرائيل بما فيه الكفاية. كان يرتكز على قاعدة شعبية «شعبوية» قوية مكونة من البيض العنصريين والمسيحيين الأنجليكيين والمحافظين الجدد والمنظمات الداعمة للكيان الصهيوني. وكان يتصرف بكل ثقة على أنه باق في البيت الأبيض، بل أعلن فوزه في الانتخابات منذ اليوم الأول قبل أن ينتهي الفرز. فبقدر ما كان له أنصار كان له أعداء. ومن الصعب أن تجد جماعة أو حتى أفرادا ليس لهم موقف من ترامب، فإما معه للنهاية أو ضده للنهاية، لهذا جاءت الانتخابات لعام 2020 متقاربة ما شجعه على أن يرفض نتائجها ويقوم بما قام به من محاولة أقرب إلى الانقلاب يوم 6 يناير 2021.
الجديد في قضية ترامب أنه أول رئيس يمثل أمام المحكمة وتوجه له 34 تهمة بعضها تصنف على أنها ذات طبيعة جرمية، يمكن أن تؤدي به إلى السجن، وتهم أخرى بحاجة إلى تحقيق وإثباتات، بعض التهم شخصية تتعلق بتزوير في ممارساته لأعماله التجارية، وبعضها يتعلق بتجاوز صلاحياته وانتهاك المسؤولية التي يتحملها كرئيس، لكن أهم التهم هي، تقديم رشاوى لممثلة الأفلام الإباحية، ستورمي دانيل، لشراء صمتها كي لا يؤثر حديثها العلني على انتخابات عام 2016 وإذا ما ثبتت هذه التهمة فقد يكون الحكم فيها بالسجن. والتهم الأخرى المهمة التي تنتظر التحقيق والإثباتات مثل التدخل في الانتخابات في ولاية جورجيا ومحاولة تغيير نتائجها، وحجز كمية هائلة من الوثائق في بيته بفلوريدا، من دون الإفصاح عنها. ثم الدور الذي لعبه في اقتحام الكونغرس بتاريخ 6 يناير 2021. يعتقد ترامب أن هناك حملة منظمة مدبرة ممولة من الحزب الديمقراطي تستهدفه، لأنه يستعد لخوض الانتخابات الرئاسية لعام 2024 وأنه واثق بالنصر. وقال إن هذه التهم جميعها ستسقط دون كبير جهد، لأنها ليست تهما بل مطاردة سياسية، بل ستساعده في الوصول إلى البيت الأبيض.
سيادة القانون في العالم العربي
يوم نرى بلدا عربيا واحدا تكون فيه السيادة للقانون وبشكل مطلق، ولا نرى أحدا فوق القانون، لا الملك ولا الأمير ولا السلطان ولا الرئيس ولا رئيس الوزراء ولا أقاربهم ولا زوجاتهم ولا أولادهم، يومها سنحاول أن نقدم طلبا للهجرة إلى ذلك البلد. كنت أعتقد أن تونس نجحت في الاختبار عندما شاهدناها لعشر سنوات تذهب لانتخابات حرة وتنتخب برلمانا بكل حرية وتغير الرؤساء بطريقة سلمية. لقد أغراني هذا النموذج فزرتها خمس مرات بعد الثورة، وأصبحت البلد الأكثر جاذبية إلى أن أثبت لنا قيس سعيّد أننا على خطأ، يوم عاد وانقلب على الدستور وحل البرلمان والمجلس القضائي، وأصبح يحكم بإصدار الفرمانات. يومها فقط أنزل الستار على محاولة ولو بلد عربي واحد أن ينتقل سلميا إلى التعددية السياسية وتداول السلطة وسيادرة القانون.
* محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي