
التجريب والتنظيم الذي أنتجه المجتمع المدني (لا الرسمي) سرعانما قاد الاحتذاء به إلى ممارساتٍ ســـلبية لم تكن في حسباناللاعبين في الساحة الدولية، كبارهم وصغارهم
لا يرى المتابع للنظام الدولي الماثل سعياً جاداً يلغي مسبباتالصراعات والحروب من جذورها
جمال محمد إبراهيم
(1)
لعلّ النظر الثاقب لمجريات الأمور السياسية والاقتصاديةوالاجتماعية، وعلــى المستوى الكوني، سيحيلنا حتماً إلى إدراك ماهـو مفضٍ إلى تحوّلاتٍ كبرى ستلحق بالمجتمعات البشرية فيسنوات العقد الثالث من الألفية الثالثة التي نعيشها. هي تحوّلاتٌقادمة لا محالة، وتكاد خطورة تداعياتها أن تتجاوز ما أحدثتهغضبات الطبيعة من زلازل وفيضانات. على المستوى الاجتماعي،وفي أقرب مثال، عرفت البشرية الطواعيـن ومثيلاتـها من الأوبئــةالفتّاكة، لكنها لم تشهد جائحة استشرت بتسارع غير مسبوق علىمستوى العالم، مثل جائحة كورونا التي أهلكت ما يقارب 15 مليوناًمن البشر. وبرغم ذلـك، شكّلت اختبارا لمقـدّرات منظمة الصحةالعالمية في التعــرّف على مســـبّباتها بصورة قطعية. وفيما يطويالعالم السنة الثالثة مودّعاً تلك الجائحة، نجد أطرافاً في المجتـمعالسياسي الدولــي تتبــادل الاتهامــات حتى الساعة، عمّن تسبّبفيها، بما يؤكّد عجز المنظومة العالمية التي تقع عليها مسؤولياتالحماية من الأوبئة. يتعثر أداء منظمة الصحة العالمية، وهي عرضةٌلتجاذبٍ بين كـبار العالم بشأن من صنع تلك الجائحة: يـد الطبيعةأم يد البشر؟
(2)
على المستوى الاقتصادي الدولي، ثمّة تحدّياتٌ استجدّت على أنظمة“بريتون وودز” التي أنشأها المجتمع الاقتصادي والمالي الدوليمنذ نهايات الحرب العالميــة الثانيـــة، لتلافـي أي انهياراتٍمستقبليةٍ في مجالات التعاون المالي والاقتصادي على مستوىالعالم. تتعثر جهـــود تلك الأنظمـة التقليدية في معالجة مشكلاتالديون بين فقـراء العــالم وأغنيائه، كما يشكّل التحوّل الرّقميتحدّيات متجدّدة، تستوجب مواءمة مطلوبة للاقتصاديات التقليديةمع الواقع الرّقمي المُحدث، وتمثل العملات الافتراضية منه حالةواحدة، ما زالت تشهد ارتباكاً لافتاً، ولم تتحد الرؤى حول ضرورةتحديث تلك الأنظمة المالية الدولية التي صاغها أقوياء المجتمعالدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وباتت مراجعتها ضرورةماثلة، إزاء تحدّيات بالغة الخطورة، مثل تحدّي التنمية المستدامةلمجتمعاتٍ نالت حرّيتها واستقلالها بعد انحسار ظاهرة الاستعمارالكولونيالي، ومثل تحدّي الانفجار السكاني وبقية القضاياالعالمية، مثل سباق التسلح النووي وتغيّرات المناخ والبيئة وسواها.
(3)
على المستوى السياسي في الساحة الدولية، حــدّث ولا حرج. لانحتاج لتفصيل التحدّيات، وقد أرهقت الصراعات التي اجتاحتبقاع العالم ما عجزت معه الترتيبات التي توافق عليها المجتمعالدولي على احتواء تبعاتها. ما زال المجتمع الدولي ممسكا بميثاقللأمم المتحدة الذي صاغته البشرية منذ عام 1945، وأقعدت بجهودهالــدول الكبرى بأنانيةٍ حجبت جدّية المساعي لمراجعة موادّه، إلا عبراتفاقيات تكميلية ابتدعــتـهـا بعض الحكومات لسدِّ ثغراته. وأكثرمن ذلك، لا يرى المتابع للنظام الدولي المـاثل سعياً جادّاً يلغيمسبّبات تلك الصراعات والحروب من جذورها. لم تفلح صلاحياتذلك الميثاق، بقدرٍ ناجع في تحقيق الأمن والسلم الدوليين، ولعلّالجروح الجسـيمة، كما عند الأطــــــباء، لا تعالج بالطب الناعم، بلبالتعديل أوالتقويم أو التبديل أو البتـر.
أما دوائر تلك الصراعات والخلافات المستشرية على المستوىالكوني، فإنها لا تتّسع إلا بأسبابٍ تتصل بتزايد أطماع أطرافٍ فيالمجتمع الدولي، تتنافس لامتلاك موارد طبيعية آخذة في النضوب،أو تتجاسَر على مناطق نفوذٍ يحمي أطرافها. ذلك ما فتح الأبوابلجنوح أطرافٍ في الساحة الدولية، عملت على تجاوز مبادئالمجتمع الدولي ومقرّراته وتوافقاته، بل أيضاً لتجاهلها المتعمّدالمبادئ الأخلاقية التي ينبغي أن تتوفّـر لحفظ الكيان البشري،وتأمين سلامة مجتمعاته.
لعلّ أوضح مثل لذلـك القتال الشرس بـيــن روسيا وأوكرانيا، تدفعأثمانه مجموعات بشرية هنا وهناك، ويتصاعد رويداً ليمهّد جنونيةعالميــة ثالثــة.
(4)
شهد العالم في العقود الوسيطة من القرن العشرين نموا فيتنظيمات مدنية بعيدة عن الحكومات، سعت إلى إكمال نواقصالتوجّـهات الرسمية للدول، في مجـــالات حيوية للتعــاون الدولي. لقد زاد الوعي بقضايا دولية برزتْ أهميتها لمساسها المباشر بمصيربقاء الإنسان، مثل قضايا البيئة والمناخ والطاقة، وإن تحقق ذلكالجهد المدني وغير الرسمي في نجاحاتٍ تُذكر، وشكّل بذلك أنموذجاًإيجابياً جديدا مباركاً، إلا أن ذلك التجريب والتنظيم الذي أنتجهالمجتمع المدني (لا الرسمي) سرعان ما قاد الاحتذاء به إلى ممارساتٍســـلبية لم تكن في حسبان اللاعبين في الساحة الدولية، كبارهموصغارهم.
ولئن كان واقع ضمور الموارد الطبيعية وتناقصها دافعا لتعزيزتعاون دولي لازم، إلا أنه لم يَخلُ من تنافسٍ لا يلتزم بتلك المبادئ. صارت بعض أطـراف في المجتمـع الدولــي تجنـح إلى استغلال واقعالمجتمعات المدنية فيها، لتنشئ جيوشـاَ وتكوينات من مجنّدين، لاتتبـع في الظاهر للكيانات العسكرية والأمنية الرسمية في الدولة،لكنها في الخفاء تأتمر بقراراتها. لعلّ أصدق مثال واضح للعيان ماتمثله منظمة “فاغنــر” التي نشأت في روســـيا بعيداً عن الدولةالرسمية، وتمدّدت فصارت لها أصابع وأنشطة أجنبية.
(5)
إذا كان الاستعمار الكولونيالي من صنائع دولٍ ذات سطوة منذسنوات القرنين التاسـع عشر والعشرين، إلا أنّ القضاء على هذهالظاهرة استغرق زمناً طويلا من نضال لشعوبٍ مظلومة، ما انتهتتلكم المظلوميات التاريخية إلا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام1945. إذ ما أن وضعت الحربُ أوزارها، حتى أقرَّ زعماء العالم وقتذاكمواثيق دولية، أهمها ميثاق الأمـم المتحدة والإعلان العالمي لحقوقالإنسان بعده. لو كان الاستعمار الكولونيالي أنشأته حكوماتوامبراطوريات لم تغب عنها الشمس، إلا أن هذه المواثيق المشارإليـها قد غيّبت الشمس فعلـياً عن تلك الكيانات الكولونيالية الظالمة،فنالت معظـم المستعمرات القديمة، خصوصا في أفريقيا وآسـياوالأوقيانوس وأميركا اللاتينية اسـتقلالها، وطوى العــالم صفحـةذلك النوع من الاستعمار البغيض.
غير أن صفحات الإستعمار الكولونيالي، فيما يبدو، لم تطوَ طياًنهائياً. لقد فضح الإعلام العالمي ورصد ما تقوم به منظمات عسكريةشبه مدنية، تدّعي اســـتقلالها عن حكــومــاتها رســميا، لكنهاتنشط في الخـفاء لخدمـة مطامع حكومات رســـمية، خرجت هذهالتنظيــمات العسكرية شبه المدنية من عـباءتها. ذلـك نوع مُحدثٌ منالخـداع الاستعماري يعيد الحيـــاة لممارســـات استعمارية، قبرتْمنذ أواسط سنوات القرن العشرين. ذلك ما تـم رصـــده فـــي تقاريرالإعلام العالمي من أنشطة تقوم بها منظمـة فاغنـر، الروســية فـيماوراء البحــــــار مجازاً. لا تطلق جهات إعلامية عديدة تعبير“مرتزقة” على مثل هذه التنظيـــمــات شبه العسكرية وتغوّلاتها فيأنحاء القــارّة الأفريقية. ومثلها ولا تختلــف عـنها قـــوات الدعـــمالسريع السودانية التي تقاتل في اليمـــن، عن قوات “فاغنر” هذه،بل تشكّل كلاهما جماعات عسكرية مقاتلـة، تخرُج للعمل بأذوناتٍمن حكومات رسمية، وإن ادّعت استقلالها عنها.
(6)
تشكّل الإشــارات أعلاه في الساحة الدوليــة، والعالم ماضٍ فيسنوات ألفيته الثالـثـة، في جوهرها تنبيهات بالغـة القـوّة،وتحذيرات عالية الصدى، لا بدّ من أن تصل إلــى أسماع المجتمعالدولي، لابتداع ما يعين على تجـــاوز كلّ هذه الســـلبيات المــاثلة،ويبتكـر من الترتيبات الجــديدة التي يحمـي الوجـــود البشـري، فلايتهــدّده الفناء بأيــدي أبنائـه. تنبّه إشــارات الخطــر إلـى ضـرورةالالتفات لمراجعــة المـــواثيـق الدوليـة في المجالات كافة: السياســيةوالاجتماعـــية والاقتصادية والثقافيـة، بما يعيــن على احتـــواءنـزعــات التنافــس الظالــم بين أقــوياء العـالم وضعفائه، والقضـــــاءالمبرم على محاولات الاستعمار الكولونيالي الجـــديد الذي برزبلبوس مستحدَث للسيطرة على مــوارد وثرواتٍ بشرية وطبيعية،هي ملك للمجتمعات البشرية كافة، وليست وقفاً على فئةٍ قليلةٍ منكبار المجتمع الدولي.
إنْ كانت مهدّدات بقاء المجتمع البشري متماسكاً هي من صنعأيدينا في الأغلب، علينا أن نبتدع من الأساليب والمواثيق والمبادئما يمكننا، وعبر صياغاتٍ محكمة، مـــن صيانة موجبات بقائـه آمنـاًفي السياسة والاقتصاد والاجتماع … إننا على مشارف نظام عالميجديد.