الفساد والتنمية

د. الطيب حاج مكي
دول العالم الرابع وليس الثالث، بلدان جديرة بأن توصم بالفساد، بحكم أنها ظلت تتصدر قوائم منظمة الشفافية الدولية في صنوف بالفساد أوبكلمات أخرى التردي في الإنهيار الأخلاقي. وتحريًا للموضوعية الفساد منتشر -أيضًا- في دول العالم الأول كما في حالة ترامب وتحقيق مدعي عام منهاتن معه في فساده يوم 5 أبريل الجاري. أو في حالات كوريه جنوبية وبرازيلية وحتى يابانية وسويدية. لكن الاختلاف في الدرجة وفي وجود مؤسسات مستقلة لكشف الفساد ومحاكمة الفاسد حتى لو كان ترامب. وبضدها تتبين الأشياء ، قرأ الناس في الصحف وفي الوسائط أن بعض الدول منحت السودان مساعدات وخصوصًا هبات دوائية وجدتها تباع في صيدليات تجارية. وهناك من يرسل إغاثات للضحايا ولكنها لا تلبث تظهر في الأسواق. هذا الوضع ليس سودانيًا فحسب ولكنه عالم رابع بامتياز. ولكن ترتب عليه طرح أسئلة من الدول المانحة حول كيفية ضمان وصول المساعدات للفقراء أو لستات الشاي إن شئت، وليس لحسابات سرية في بنوك عربية وغربية. ليس ثمة جديد تحت الشمس فقد عايشنا مضامين السؤال منذ أيام جفاف عام 1984م، عندما اكتشف الأوربيون والأمريكان أن صدقاتهم لا تذهب لضحايا الجفاف والتصحر، فقد كان الفاتح بشارة يعيدهم إلى قراهم ليواجهوا الموت بينما تذهب المعونات لجيوب القطط السمان بقاموس ذلك الزمان. وهكذا اكتسب السؤال حيوية على نحو مفتوح منذئذ وحتى اليوم ولا شك سيكون مطروحًا في المستقبل المنظور. وبهذا فإن مشكلة الفساد تتجاوز الضحايا لتدمير التنمية نفسها وتدمير النوايا الحسنة للدول المانحة. لهذا نلحظ تردد الدول في دعم الفقراء أو في تبني مشاريع كبيرة أو متناهية الصغر أو تقديم منح لانتشال الفقراء من بؤسهم. بل صارت برلمانات غربية تقلص المساعدات أو تحاول تقديم القليل منها عن طريق منظمات غير ربحية. وقد تشرع قانونًا لإرسال كوادر من تلك الدول للإشراف المباشر على توزيع المساعدات لضمان وصولها لضحايا الفقر. وقد اتضح لهذه الدول أنها مهما تقدم من مساعدات فإن الفقر يتمدد والفقراء يزداد عددهم ولهذا يركبون قوارب الموت نحو أوربا. والسبب وجود تشريعات محلية تصدرها أنظمة فاسدة في الدول الفقرة فتجهز على المبادرات الفردية والمشاريع الخاصة الصغيرة. فما أن يؤسس مواطن مغلوب على أمره محلا صغيرًا أو ينشيء مزرعة متواضعة ليقتات منها، حتى تتداعى مؤسسات جبائية تفرض الأتوات والضرائب والدمغات ومشتقات أخرى من هذه الأسماء فيخرج صاحب المشروع أو صاحبته من التجارة وينضم لقائمة الفقر والفقراء. خذ مثالاً المعدنين الأهليين هذه فئة فقيرة ومنتجة وتخاطر بحياتها وببيع كل ما تملك من أصول لكي تضيف قيمة للاقتصاد الوطني. ثم عندما تحصل على أقل القليل من الذهب، تتكالب عليها المحليات والشركات بدمغاتها ورسومها والأنكى لا توفر الدول أي خدمات للمعدنين بما في ذلك خدمات الحماية من القتلة والمجرمين المحترفين. في الحقيقة تلام بعض الدول المانحة لأن مساعداتها في أغلب الأحيان تُربط بنوع النظام السياسي القائم. فإن كان موالياً لها تم غض الطرف عن فساده وعن فقرائه وفقره وعن حسابات منسوبية في البنوك الغربية والآسيوية. ولكن إن كان مشاتراً كما في حالة دولة الإنقاذ (المنصرفة) نزلت تلك الدول العقاب الجماعي عموديًا على الضحايا. هذا السلوك السياسي يجعل المساعدات ليست موجهة للتنمية ومكافحة الفقر بقدرما هي لخدمة أجندات سياسية ودعائية للدول المانحة. وأحياناً تلام الدول المانحة لجهلها بالحاجة الحقيقية لفقراء العالم الرابع ما يجعلها ترسل منتجات لا يستهلكها أو يستفيد منها مواطن هذه الدول. مع ذلك يظل نظام الحكم في دول العالم الرابع هو المشكلة الحقيقة. فالأنظمة الشمولية في هذه الدول يقودها أفراد لا يدركون أهمية وجود قانون، مثلما لا يدرون أن السلطة المطلقة تعني تلقائياً شيوع مفسدة مطلقة في السرقة والمحسوبية والرشوة والدخول في مغامرات عسكرية تقلب أولويات الوطن والمواطن رأسًا على عقب. هذا الفساد يتحول مع الوقت إلى ثقافة راسخة، تتسامح مع السرقة وتسمى النهب ذكاء، وتصف سرقة الهبات والمنح التنموية التي تبعثها الدول بأنها فهلوة مقبولة. ومن الأمثلة وجود مبالغ نقدية بعملات صعبة بالملايين في حوزة عمر البشير ليلة الإطاحة به. ولهذا يظل الشك قائماً في إمكانية تجاوز الفقراء لفقرهم طالما كانت قيادات الفقراء تسعى للسلطة المطلقة لتحقيق فساد مطلق كما تقول المعادلة. جاءت فكرة إعفاء ديون الدول المثقلة بها أو ما يسمى اختصاراً بالهيبك HIPCS )) كمبادرة لإخراج الفقراء من فقرهم. وتم تطبيق المبادرة عملياً وفق شروط يشرف عليها البنك الدولي. والسودان من الدول التي رشحت بعد ثورة ديسمبر وتأهلت بسرعة صاروخية لمرحلة شطب الديون ولكن حدث انقلاب 25 أكتوبر فعكس اتجاه البوصله. وهو نوع من سوء التخطيط وسوء ترتيب أولويات. مما عقد المشهد كله على فقراء السودان وفوت علينا كسر طوق الفقر فضلاً عن الخروج قائمة الفساد. ولكن للأمل فسحة وما تزال. إلى لقاء